كتَب- خالد الإشموري على موقع/ عرب جورنال
مجرد توغلك بضعة كيلومترات في أعماق مدينة صعده احدى محافظات الجمهورية اليمنية ..وأنت مسترسل في الاستمتاع والتنفس بالهواء النقي العليل المنبعث من تنهيدات أشجار الليمون والزيتون وخفقان قلوب أبناء صعده النابضة بدفقات من الحب تحملك إلى عوالم الدهشة والجمال التي تمتاز به صعده الأرض والإنسان ..حيث الجنات من الصور الناظرة بأرضها الشاسعة خضراء "خصبة" مزارع العنب والتفاح والليمون والجبال تكسوها الخضرة كأنها حزام على جسد الجمال ذاته .. والناس البسطاء المنكبون على العمل يسابقون الزمن في الإنتاج والبناء .
صـــعدة اليمنية.. حزام من الآثار والجبال الخضراء
هذه السطور وغيرها خطها بقلمه رجل الإعلام اليمني المرحوم /عبيد الحاج في زيارة له وصحبه إلى صعدة ـ الحضارة والتاريخ ..فيما يلي فحوى الاستطلاع :
ونحن على متن السيارة ونظراتنا تمتد بامتداد ذاك المدى الصامت ..المتماوج بالخضرة والآثار ..اخذ الحنين بداخلنا منحنى أشد ونتوغل في المدينة "العاصمة " شوارع ومباني قديمة بطراز معماري يمني فريد تتجاور مع مباني حديثة معاصرة لتشكل لوحة متناسقة تربط بوثوق الماضي العريق بالحاضر المعاصر ..وعلى مدى آخر حقول وبساتين منبسطة تزيد الطبيعة الخلابة جمالا على جمال وروعة- روعة هذه المدينة الأثرية التي طالما تساءلت وغيري عن مصدر أسمها من أين جاء وماذا يعني ؟
ثمة حكاية شعبية قريبة من الأسطورة مفادها أن إمرأة حسناء اسمها "صعدة " رأت في منامها ما يحكي أن بقعة من الأرض تقع في "رهوة "جبل "تلمس" وتمتد حتى جبل ظفار غنية بكل أنواع الخضرة والمراعي وعذبة بالمياه الدافقة المنسابة رقراقه بين جذوع الأشجار وفي الأخدود والافلاج الطبيعية.. وعندما استيقظت من نومها حدثت والدها بما راته في حلمها الجميل فحزم أمتعته مع ابتسامة صغيرة يحاول أن يخفيها حتى يتأكد من حقيقة خواطر تواردت في ذهنة هي تفسير لحلم ابنته ..وصل الرجل إلى تلك البقعة فوجدها كما وصفتها له ابنته فجعل منها موطناً له.. وأطلق عليها أسم "صعدة " وهكذا جاء الاسم واستمر منذ ذلك الزمان البعيد حتى اليوم!
ولأن "صعدة" تضرب بجذورها في أعماق التاريخ وتحمل إرثاً وتراثاً أصيلا وعريقاً فقد جاء ذكرها أيضاً في المساند الحميرية ويمتد تاريخها إلى ما يقرب كثيرا من تاريخ ميلاد المسيح عليه السلام ..كما ذكرت في زمن الملك العملاق المشهور شمر يهرعش عندما حمل على صعده ليؤدب "القبل " في الشمال في وادي "حنبة" وقتل منهم خمسة آلاف نسمة تقريباً.
تقع صعدة تحت جبل "تلمس" وهو يطل على بلاد سحار وهمدان وخولان لذلك اتخذه ملوك حمير وامراؤها حصناً حصيناً منيعاً من أية غزوات ..وقد سكن فيه نواب ملوك حمير ومنهم نوال ابن عتيك نائب الملك سيف بن ذي يزن ووالي له في تلك المنطقة قبل بزوغ فجر الإسلام بحوالي خمسين عاما.
واثناء استعراضك الذهني لهذه الحقائق التاريخية الحيوية الثمينة ينبسط امامك امتداد صعده حتى جبل "ظفار" الجبل الأثري المشهور الذي سكنه بنو سعد بن غالب لاتزال آثارهم محفورة فيه حتى اللحظة في صورة "البرك" المنقوبة في الصخر واعمدة الحجارة المنتصبة بثبات وغيرها من الآثار.. وفي نفس الجبل آثار لمعارك تشير بتفاصيلها بأن الرمح المشهورة التي يذكرها فرسان العرب لها ارتباط وثيق بتاريخ هذه المنطقة وتاريخ اليمنيين بصورة عامة واطلق عليه حينها بـ "الرمح اليماني" أعتمد عليه العرب في فتوحاتهم ..وفي "رهوة" الجبل توجد قبور حميرية وأحجار سبأية قديمة وخطوط في صفائح خشبية وحجرية مخطوطة من اليمين إلى الشمال ومن الشمال إلى اليمين كما هو معروف في الخطوط السبئية القديمة ..
وشاهدنا ايضاً أحجار حميرية تقدر بنحو ثمانمائة "800"قطعة حجرية طول الواحدة منها يزيد على متر ونصف .. منحوتة بعضها على شكل القمر والبعض الآخر على شكل قرص الشمس ..وهكذا ..!
ونحن في قلب الدهشة يلتفت إلينا الوالد حسين عيضة الشعبي بابتسامة مريحة وعينين ودودتين تحملان الكثير من الاعتزاز والزهو ..وهو المهتم بالفطرة ..بآثار صعدة وتاريخها .. فيقول :إن الآثار هنا أغرتة لتميزها وندرتها لذلك فهو يهم إلى جمع الأحجار الحميرية ويبني بها متحفاً اثرياً في المنطقة وإذا ما تحقق له ذلك فإنني اجزم بأن هذا المتحف سيكون الوحيد في العالم بهذا النمط والتميز ..بل إنه سيكون الأول من نوعه يتم تشييده بأحجار سبأية منحوتة قديمة وسوف يحظى بأهمية تاريخية وتراثية عظيمة مثلما يصبح مستقبلاً قبلة للسياح وللمختصين بالتراث القديم من مختلف أصقاع العالم ..
عندما تزور صعدة لابد أن يجذبك ذلك الكم من الإدهاش في ثنايا سورها الأثري ونقصد صعدة المدينة القديمة .. وقد شيد عام 940هـ1533م, ويحيط بالمدينة في شكل دائري من مادة الطين تتخلله أشكال بديعة ترمز إلى بعض صور الحياة للإنسان القديم في تعاطيه مع الأرض والحيوان وفي معيشته وعلاقاته الاجتماعية ..ونحن نجول حول السور وكأي صحفي يثير دهشتنا وأعجابنا ذلك الرجل المسن الوالد / حسين الشعبي بذكاءه الفطري وسعة معارفة التاريخية والأثرية إلى درجة أن اطلقت عليه موسوعة صعدة الأثرية ولعله كذلك وربما اكثر فعلا.. فهو يحفظ عن ظهر قلب النصوص الحميرية ويمتلك قدرة عجبيه على ترجمتها ..كما أنه يسرد وبتلقائية الأحداث التاريخية منذ الأزمان الغابرة حتى تلك التي لم نجد لها مصادر أو كتب في المكتبات ..ويصنف الآثار ويحدد مكانها وأنواعها وتاريخها وأهميتها ودلالاتها التاريخية ويتحدث عنها كما لو أنها جزء من حياته أوكل حياته ..إلا أن حديثة عنها لا يخلو من غصة ألم وحسرة على تلك الآثار التي اندثر منها الكثير وتعرض بعضها للنهب والسطو إما بغرض المتاجرة بها ,اوعن جهل بأهميتها وقيمتها التاريخية ..وبين الحين والآخر كان العم حسين يردد أمنية لو أن ثمة اهتمام تحظى به آثار صعدة لأصبحت كما يقول واحدة من أهم المدن الاثرية والسياحية في اليمن وربما في المنطقة. والمفارقة العجيبة أن الرجل يعطي كل جهده ووقته للاهتمام بالآثار دون أن يستفيد منها شخصيا, ولم يلتفت حتى لوضعه المعيشي المهمل بما لا يقل إهمالا عن قطعة أثرية واحدة ..!
مزارع وعنب صعدة:
تتجول في صعدة ولابد أن يستوقفك ذلك التوسع في الزراعة وانتشار المزارع , خصوصاً مزارع العنب والبرتقال والرمان والزيتون بالإضافة لزراعة المحاصيل الموسمية مثل القطن والحبوب وغيرها ..
وتتميز صعدة بجوده العنب والرمان بالتحديد ولهذا تتردد عادة في أسواق الفواكه والخضار كلمة "عنب صعدة أورمان صعدة "واذا كانت المقولة و الشائعة تقول "بلح الشام وعنب اليمن "فان القول بلح الشام وعنب صعدة يمكن أن توازي هذا المعنى بمعيار الجودة ومذاق الفاكهة ليس في رأيي ولكن برأي كل من ذاق أو يذوق عنب صعدة أو حتى رمانها وفي هذا السياق فان ما يحرك بداخلك الإعجاب أن بعض أبناء صعدة يحيطون اهتماما كبيراً بالزراعة ويبذلون الجهد والإمكانيات الهائلة .
نتوقف أخيراً لوداع صعدة كمسك للختام عند محاذاة مزارعها ,وبحب كبير واعجاب اكبر نوزع نظراتنا على التزاوج بين اشجار الفاكهة بكل أنواعها والخضار والحبوب وتدفق المياه العذبة المنسابة رقراقه في ثنايا الحقول وبين سيقان الاشجار ونظرات اخرى نلقي بها على المدينة وبلونا التفاؤل بمستقبل رائع لها ولأبنائها وهي تسير بخطى حثيثة نحو الأحدث والأكثر تطوراً على كافة الاصعدة
علق ولاتتردد بمافي في نفسك سيكون الجميع هنا ،في موضع نقاش للتناصح وتصحيح الأخطاء